منوعات

الودائع ضحية تطيير التدقيق الجنائي وهذه الجهات المسؤولة

حمود : رفع "السرية المصرفية" ليس الحل

ترك قرار شركة “ألفاريز ومارسال” فسخ العقد الموقّع مع الدولة اللبنانية للتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، علامات استفهام عدة حول أسبابه وخلفياته. علماً أنّ الشركة وافقت خلال اجتماع في القصر الجمهوري منذ أيام، على منح مصرف لبنان مهلة إضافية تمتد لثلاث أشهر لتسليم المستندات والمعلومات التي تطلبها الشركة.

كيف أُجهِضت مهمة الشركة؟

مصادر مطلعة على الملف لفتت لـ”أحوال” إلى أنّ الشركة، وقبيل قبولها مهمة التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، تلقت ضمانات من رئيسي الجمهورية والحكومة بتسهيل مهمتها، وتسليمها كافة المعلومات والأرقام التي تحتاجها؛ وكانت الأجواء السياسية مشجعة رغم وجود معارضة خفية لهذه الخطوة من جهات عدة، لم تظهر إلى العلن.

إلا أنّه وبعد قرار مجلس الوزراء التعاقد مع الشركة في 21 تموز الماضي وبعد استعداد الشركة لبدء مهمتها، وقع تفجير مرفأ بيروت في 4 آب وتبعه سقوط الحكومة، ما بدّل الأجواء السياسية في البلد. واستغل المعارضون لهذا التدقيق بوضع العراقيل أمام الشركة وتنظيم حملة إعلامية وضغط سياسي لإجهاض مهمة الشركة وصولاً الى فسخ العقد.

ولفتت المصادر إلى أن “الشركة لاحظت انقساماً سياسياً كبيراً حول هذا الأمر سيما بين رئاستي الجمهورية والحكومة ووزارة العدل من جهة، وبين المجلس النيابي ورئيس لجنة المال والموازنة ابراهيم كنعان من جهة ثانية، الذين وضعوا قانون السرية المصرفية عائقاً أمام وصول الشركة الى المعلومات في مصرف لبنان”.

وأضافت المصادر أن ممثلي الشركة وجّهوا أكثر من شكوى الى مراجع عليا في الدولة، اعتراضاً على عرقلة عملهم من قبل مصرف لبنان. لكن لم يتم تسهيل الأمر، سيما وأن الخلاف انتقل إلى رئاستي الجمهورية والحكومة. ويظهر ذلك بتبرؤ حكومة تصريف الأعمال من قرار التمديد 3 أشهر لتسليم المستندات الذي اتُخذ في بعبدا. كما انسحب الخلاف إلى داخل التيار الوطني الحر وفريق رئيس الجمهورية، وعكس ذلك السجال الحاد بين وزيرة العدل ماري كلود نجم ورئيس لجنة المال والموازنة أمين سر تكتل لبنان القوي ابراهيم كنعان، ما دفع بالشركة للتيّقن بأن مهمتها باتت مستحيلة أمام هذا الواقع، في ظلّ تصعيد الخلاف السياسي على تأليف الحكومة والمؤشرات الدولية المقلقة تجاه لبنان فقررت المغادرة.

السرية المصرفية ذريعة لإحراج الشركة فإخراجها

أكد مصدر مالي واقتصادي سابق ومحسوب على رئيس الجمهورية لـ”أحوال” أنّ “قرار التدقيق الجنائي لم يكن جدياً منذ البداية، حيث كان محل انقسام سياسي بين الحكومة والمجلس النيابي ورئاسة الجمهورية والمصارف ومصرف لبنان”. ولفت الى أن “تحالفاً عريضاً من قوى سياسية ونيابية ومالية ومصرفية تعاونت على إجهاض التدقيق الجنائي، بالتعاون مع مصرف لبنان الذي رفض التعاون مع الشركة، ورفض تسليم المستندات والمعلومات التي طلبتها الشركة، تحت ذرائع واهية أهمها قانون النقد والتسليف والسرية المصرفية_الذين لا يتعارضان مع التدقيق الجنائي، وذلك لإحراج الشركة فإخراجها”.

وشدّد المصدر على أن الرئيس عون ماضٍ في موضوع التدقيق عبر جملة خطوات وإجراءات قانونية وتشريعية قريبة.

هل الحل برفع “السرية المصرفية”؟

رئيس لجنة الرقابة على المصارف السابق سمير حمود أشار في حديث لـ “أحوال” إلى أنّ “انسحاب الشركة من عقد التدقيق الجنائي مع الدولة كان متوقعاً لأسباب عدة”. وأوضح أن “إبرام عقد التدقيق مع الشركة لم يتم وفق الأصول والوضوح والشفافية وشابه الغموض منذ البداية، لا سيما تعارضه مع قانوني السرية المصرفية والنقد والتسليف؛ وكان الأجدر بالمعنيين الإنتباه لملاءمة هذا العقد والقوانين المالية اللبنانية”.

وبرأي حمود، كان يجب تحديد الجرم المالي القانوني قبل سلوك طريق التدقيق الجنائي، رافضاً منطق تعميم الفساد “على كل مؤسسة عامة من قطاعات الدولة لأنه يؤدي إلى المزيد من ضرب الثقة الداخلية والخارجية بتلك المؤسسات”.

واعتبر أن طريقة مقاربة الملف خاطئة، “فيجب بدء التدقيق في العمليات المصرفية، وإذا ما تبين من شبهة يُصار إلى تحديد التدقيق الجنائي بصورة محددة لتصحيح أماكن الخلل.”

ورأى الرئيس السابق للجنة المصارف أنّ “تعديل قانون السرية المصرفية لا يزيل التعقيدات أمام التدقيق الجنائي وليس الحل لتسهيل المهمة، متسائلاً هل لتعديل قانون السرية المصرفية مفعول رجعي؟ وهل يسري على كافة الودائع والحسابات الداخلية والخارجية وكل العمليات المالية التي حصلت منذ سنوات مع المصارف، ومنها مع عملاء هذه المصارف؟ وتحت أي قانون يمكن ضرب استقرار التشريع لكشف حسابات أُنشئت في ظل قانون السرية السائد في حينه؟ موضحاً أنه لا يمكن الفصل بين حسابات الدولة وحسابات مصرف لبنان والحسابات العائدة للمصارف، نظراً للتشابك فيما بينها.

ويتابع حمود، “جزء كبير من الودائع المصرفية، على سبيل المثال، أُودِعت في المصرف المركزي والأخير أقرضها للدولة وعدد كبير من مؤسساتها، وبالتالي رفع السرية المصرفية عن حسابات مصرف لبنان وحسابات القطاع العام التي يمكن رفعها طوعاً من قبل الوزارات أنفسهم ليس الحل”، مضيفاً أن هناك الكثير من الحسابات النظيفة في مصرف لبنان والمصارف، فهل يمكن إدراجها ضمن دائرة الحسابات الفاسدة؟

ودعا حمود إلى التحقيق المحاسبي في الأرقام المشبوهة دون ذكر للأسماء، وفي حال ثبت وجود فساد فيها يُصار إلى التدقيق الجنائي، لكن الأمر يتطلب في بداية الأمر تأليف حكومة تستعيد الثقة وتعتمد الإصلاح الحقيقي بناء على إدارة سياسية نظيفة وعلى الحوكمة، ولذلك لا يمكن إجراء أي نوع من التدقيق في الحسابات في ظل استمرار الحكومات والأداء على حاله”.

دور لجان الرقابة على المصارف

هل كانت لجنة الرقابة على المصارف محدودة الصلاحية أم جزءاً من المنظومة التي غطت الفساد؟

أوضح حمود في هذا السياق أنّ “للجنة الرقابة على المصارف سلطة رقابية تستمدها من البنك المركزي الذي يملك صلاحية السلطة الناظمة، إذ لا تقتصر السلطة على اللجنة التي تعمل وفق تعاميم المصرف المركزي فقط، وبالتالي لا تستطيع اللجنة منع أي مصرف من إقراض المصرف المركزي والدولة ووضعهم في مصارف خارجية”.

أضاف، “لذلك كنا نراقب المصارف وفق التعاميم والنظام المصرفي القائم، ولو نصحنا المصارف بأن لا تضع الأموال في المصرف المركزي، لما كان بالإمكان أن تنمو الودائع وتستمر المصارف في تغطية العجز في ميزان المدفوعات لسنوات، في ظل أوضاع سياسية غير مستقرة وحوكمة مهترئة، وأن يكون ذلك معروف النتائج في حال إطالة فترة عدم الإستقرار؛ موضحاً أنّها مسألة نمط عمل بدأ في عام 1984 وتنامى في عام 1993 ليتفاقم في عام 2016، متضمناً أكثر من تنظيم ورقابة، لما يمتع به لبنان بنسبة كبيرة من الرساميل والإحتياطات في المركزي”.

“المركزي” موّل منظومة الفساد

في المقابل، خالف الخبير المالي والاقتصادي د. حسن خليل منطق حمود، ورأى في حديث لـ”أحوال” أن “الفساد المالي من أزمة الديون والفوائد العالية والإتفاق العشوائي حصل تحت مرأى أعين لجنة المال والموازنة ولجان الرقابة على المصارف”، موضحاً أن “مصرف لبنان موّل منظومة الفساد من الودائع في المصارف، إلى منح قروض عقارية لسياسيين وعوّم المصارف الفاسدة بالأموال تحت عنوان “الهندسات المالية”. وهنا يكمن هدف التدقيق الجنائي في كشف كيف تصرف المركزي بهذه الودائع”.

وشكّك خليل بقيمة الإحتياطات النقدية التي يعلنها سلامة، مشدداً على أنّ قانون النقد والتسليف والسرية المصرفية ليسا حجة قانوية لمنع تسليم المستندات، متسائلاً: كيف كان سلامة سيدفع مليارات الدولارات لسداد ديون اليوروبوند ويتنصّل اليوم من دفع الدولار الطالبي؟ وأوضح أن المادة 151 من قانون النقد والتسليف تنطبق على المودعين فقط، “أما حسابات الدولة فليست بمنأى عن التدقيق ولا يوجد أي مؤسسة خارج عن الرقابة”.

وبيّن خليل أن “البنك المركزي يُؤتمر بقرارات السلطة التنفيذية، لكنه خالف قرار مجلس الوزاراء مجتمعاً ورئيس الجمهورية في آن معاً، ورفض التعاون مع شركة التدقيق. لذلك وجب على الدولة الطلب من القضاء إجباره تسليم المستندات أو إحالته للمحاسبة. لكن كيف سيتم ذلك وسلامة يتولى رئيس هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان حيث مدعي عام التمييز عضواً فيها؟”

ما مصير الودائع؟

مرجع مالي سابق كشف لـ”أحوال” أن “أكثر من نصف الودائع المقدّرة بقيمة 50 مليار دولار تبخّرت ولم تعد موجودة في المصارف إلا على الورق، ولهذا الأمر يقف حاكم مصرف لبنان والجهات السياسية الداعمة له في وجه التدقيق الجنائي لتطييره تجنباً لكشف حقيقة صرف الأموال”.

فيما يؤيد خليل هذه المعلومات، يرفض الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف مقولة إختفاء الودائع، ويؤكد أنها ستعود إلى أصحابها لكن تحتاج إلى أمرين: الوقت وخطة نقدية مالية اقتصادية متكاملة لإعادة دمج هذه الودائع تدريجياً، وببطء في الدورة الاقتصادية والإنتاجية. ولفت إلى أن “الأزمة الحالية تتطلب من الجميع التعاون لإعادة الثقة بالقطاع المصرفي​ المسؤولة عن إعادة الثقة بالدولة”.

محمد حمية

 

 

 

محمد حمية

صحافي وكاتب سياسي لبناني. يحمل شهادة الماجستير في العلاقات الدولية والدبلوماسية من الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى