منوعات

عن استقلال لبنان ودرب جلجلته

يتّجه لبنان إلى جلجلته، فقد حُكم عليه بالترنّح بين المطامع والمصالح المتداخلة محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا. ينعكس هذا الواقع المرير على حياة اللبنانيين ومستقبلهم، أو الأصحّ على من بقي من اللبنانيين في أرضهم، وذلك لفقدانهم أدنى مقوّمات العيش الكريم في وطنهم. لا يسعنا عشيّة عيد الاستقلال، إلّا أن نعيد النظر بالأسباب التي جعلت من بلدنا الحبيب، كياناً ضعيفاً ومستضعفاً.

النظام الطائفي علّة كل العلل

تربّع زعماء الطوائف على عرش الحكم، بعيدًا عن المصلحة العليا للوطن، واتّخذ كل واحد منهم، محورًا ودولة أجنبية لتدعم نفوذه وتضمن بقاءه. أعدم النظام الطائفي الرؤية الوطنية لدى المسؤولين ورؤساء الأحزاب. كما كبّل الصراع الطائفي والإحتدام القائم بين مختلف الأطراف، كافة الخطط المستدامة والاستراتيجيات التي من شأنها تعزيز إزدهار البلد وتطويره. وعلى مرّ السنين، تفاقمت الأزمات وتحوّلت إلى ملفات عالقة، بين مصلحة “فلان” وحصّة “علّان”. غلب “شدّ العصب الطائفي” على الخطابات السياسية، ففقدنا المواطنية، وتشتّت تركيزنا عن قضايانا الحياتية وحقوقنا. وعلى قولة المثل الشائع، “الرزق السائب يعلّم الحرام”، فقد استثمر حكامنا في ثرواتنا وهدروا مالنا، في حين كان همّ المواطن الأساسي أن يدعم زعيم طائفته على أنّه حامي الوجود ومحقق الديمومة. والسؤال كيف ولماذا تراجعت القيادات الوطنية لصالح زعماء الطوائف؟

الخلاف على هوية لبنان

تجذّرت الطائفية في الحكم والإدارة اللبنانية منذ القرن التاسع عشر، وتكرّست أكثر فأكثر مع نشأة لبنان الكبير. فقد انضوى أبناء الطوائف تحت راية ثلاثة طروحات؛ القومية اللبنانية، القومية السورية والقومية العربية. ومنذ ذلك الحين، تجسّدت الخلافات الداخلية، حيث سعى كلّ فريق من أبناء الوطن إلى تثبيت وجهة نظره وتوجّهاته.

اعتبر المسلمون بغالبيتهم، وبخاصة السنّة، أنّ نشأة لبنان الكبير تبعدهم عن حلم إنشاء دولة عربية موحّدة تحت راية الشريف حسين. في حين تمسّك الشيعة والموارنة بالأمر، خوفًا من تحوّلهم إلى أقليّات في دولة سنية كبرى. أمّا الدروز ففضلوا لبنان الكبير على غيره من الطروحات. وللحدّ من تعاظم سلطة الموارنة، كان الأرثوذوكس موالين لسوريا الكبرى؛ على عكس الكاثوليك، الذين دعموا القومية اللبنانية. تمثّل هذا التجاذب على هوية لبنان، في مراحل عديدة. على سبيل المثال، شكّل الدستور ومسألة التعداد السكاني في العام ١٩٣٢، نقطة خلافية داخلية بين أبناء البلد.

المشاركة في الحكم

يروي الأستاذ المحاضر في الجامعة اللبنانية الدكتور روني خليل لموقع “أحوال”، أنّ استقلال لبنان والميثاق الوطني في العام ١٩٤٣، كان بمثابة أولى المحطات التي جسّدت التفاهم الوطني حول هوية لبنان. غير أنّ هذا التضامن الشعبي لم ينهِ الخلافات الداخلية حول مسألة المشاركة في الحكم والعلاقة مع الخارج.

مع نشأة لبنان الكبير، تسلّم المسيحيون، والموارنة خصوصًا، مواقع قيادية بارزة في الدولة، مستفيدين من الدعم الفرنسي لهم ومن العلاقة التاريخية مع فرنسا. الأمر الذي لم يرق لبيقة المذاهب، الذين طالبوا بحصص للمشاركة في السلطة.

وبعد ثورة ١٩٥٨ ضد سياسة الرئيس كميل شمعون، حاول الرئيس فؤاد شهاب التخفيف من الفوارق السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ إلى أن نشبت الحرب اللبنانية، التي أوجد فيها المتحاربون سبيلًا لتنفيذ خططهم وسياساتهم. وبحسب المرجع التاريخي، لم يكن العامل الفلسطيني هو سبب إندلاع الحرب الوحيد، بل كانت النوايا المستترة لدى الأحزاب المتصارعة هي الأساس؛ حيث حاول المسيحيون الحفاظ على مقدراتهم، وسعت الأطراف الأخرى إلى الحصول على مكتسبات جديدة. إلى أن انتهت الحرب باتفاق الطائف، الذي أعاد توزيع الحصص ووضع صيغة حكم مختلفة. عندها بدأت مرحلة جديدة، تترجمت بانخراط كبير للمسلمين في إدارات الدولة مقابل تراجع المسيحيين عنها لأسباب عديدة.

التزاحم على الحصص

ما نشهده اليوم من تزاحم على الحصص والوزارات، ليس سوى وجه من أوجه الخلاف على مسألة المشاركة في الحكم؛ إذ يعتبر البعض أنّ الحقيبة الوزارية إلى حدّ ما أحقية لمذهبه أو لطائفته. ويرى الدكتور روني خليل، أنّ النظام السياسي القائم على الطائفية دخل في عمق مجتمعنا اللبناني، حيث فرزت المناطق نفسها بنفسها طائفيًّا ومذهبيًّا. وذلك بدءًا من التربية البيتية، مرورًا بالتربية المدرسية وعمليات الفرز المذهبي للمدارس وتسمياتها المذهبية، وصولًا إلى التوزيع الحصصي في إدارات الدولة كافة على قاعدة ٦ و ٦ مكرّر.

هل يمكن حلّ النظام الطائفي؟

كل ما سبق ذكره، عوامل ومراحل تاريخية جعلت من لبنان كياناً هشاً وضعيفاً، وجعلت من أبناء الوطن أبناء طوائف مشرذمين. واليوم، يعي اللبنانيون أنّ حلّ النظام الطائفي الحالي، هو المخرج لبناء الوطن، فهل الطرح واقعي وقابل للتنفيذ؟

يستبعد الدكتور روني خليل، إمكانية الخروج من النظام الطائفي، ويرى أنّ الذهنية المجتمعية غير جاهزة لتقبّل الأفكار العلمانية في ظلّ الممارسات والسلوكيات المعتمدة على أرض الواقع. ويؤكّد من جهته، أنّ البلد لن يسير قدمًا إلّا من خلال الديمقراطية التوافقية المبنيّة على توزيع عادل للسلطة وعلى التخلّي عن الطروحات الخارجية.

لا شيئ مستحيل

من وجهة نظر مختلفة، يشير الدكتور في التاريخ من جامعة لومان الفرنسية أمين الياس لموقع “أحوال”، إلى أنّ لبنان “دولة مدنية” بإمتياز ودستورها علماني؛ إنّما هي دولة مدنية طائفية، والمطلوب استكمال مدنيّتها من خلال تطبيق خطوات عملية علمانية.

يتوقّف الدكتور أمين الياس، عند الحقبات التاريخية، والتي تسمح لنا بمعرفة طبيعة نظامنا السياسي القابل للتغيير. فقد عرف لبنان أنظمة سياسية مختلفة، من النظام السياسي الإقطاعي مع المتصرفية، إلى نظام القائمقامية، وأخيرًا النظام التمثيلي الطائفي وهو نظامنا الحالي، الذي سمح للشعب بانتخاب ممثّليه، في خطوة متطوّرة حينذاك.

الانتقال إلى النظام العلماني مسار طويل

عمليّة الإنتقال من النظام الإقطاعي إلى النظام الطائفي، تجعل إمكانية الإنتقال من النظام الطائفي إلى العلماني واردة، وإن كانت صعبة ومشروطة بوعي شعبي وبفكفكة الأساطير الدينية. إنّ الأمر يتطلّب مساراً طويلاً؛ يقتضي أوّلًا بإقرار الدولة لسلسلة قوانين ومنها قانون الأحوال الشخصية، وثانيًا بعلمنة المدارس والجامعات عن طريق اعتماد مواد تعزز المواطنية في المجتمع والانفتاح على الآخر. وهناك خطوات عديدة أخرى، من شأنها التأسيس لنظام علماني، مثل اعتماد مجلس شيوخ، لحفظ التمثيل الطائفي حصرًا في هذه المؤسسة. ويصبح المجلس النيابي والرئاسات بالمداورة في مرحلة أولى، وبعدها من خلال الانتخاب الشعبي على أساس المواطنة. وعلى هذا النحو، يتبدّل المشهد السياسي تدريجيًّا، وتنتهي مسيرة الأحزاب الطائفية لمصلحة الأحزاب الوطنية، أسوة بكل دول العالم الديمقراطية المتقدمة، حيث يكون للأحزاب برامج سياسية تخدم مصلحة البلد والشعب.

يلفت الدكتور أمين الياس، إلى أنّ الدستور اللبناني، الذي تم تعديله على أساس اتفاق الطائف، يحمل عناصراً عديدة مساعدة على المضي في هذا المسار. منها ما جاء في المادة ٩٥، الرامية إلى إلغاء كل أوجه الطائفية، عبر تشكيل هيئة من الحكماء تحت رعاية رئيس الجمهورية، قادرة على توجيه أصحاب القرار في الدولة نحو كيفية اعتماد طرق وأساليب وقوانين لعلمنة المجتمع أكثر وللخروج من الطائفية.

 في السياسة لا شيء مستحيل، ولكن نحن بحاجة لحالة من الاستقرار والبحبوحة الاقتصادية في الحدّ الأدنى، ليتمكن الشعب من تحقيق هذا التطور، وليتحرّر من التبعية، ولا يسعنا عشيّة ذكرى الاستقلال إلّا بدعاء الفرج.

ناريمان شلالا

 

ناريمان شلالا

صحافية وإعلامية لبنانية، عملت في إعداد برامج تلفزيونية وإذاعية عديدة، محاورة وكاتبة في المجال السياسي والاقتصادي والإجتماعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى